أنا من ثوار الداخل ولاك..اسكت ولاك ! على مدار السنوات الماضية، وأمام العطالة والفشل اللذان سيطرا على القوى السياسية السورية المعارضة، الرسمية منها وغير الرسمية، فقد بذل الكثيرون محاولات مختلفة من أجل انشاء أطر أو أجسام تمثل ثوار الداخل والمهجر.
طبعاً فشلت هذه المحاولات كلها تقريباً (وتقريباً هذه تكاد تكون غير موجودة أصلاً) أما الأسباب فهي تتكرر وتتنقل من محاولة إلى أخرى مثل فيروسات خبيثة غير قابلة للعلاج، لتقتل هذه المحاولات في الرحم، وتقوضها قبل أن تتخلق
بات الجمهور السوري مطلعاً على الكثير من تلك الأسباب، ولا داعي لإعادة الحديث عنها، لكن هناك سبب لا يعرفه الكثيرون ربما، رغم أنه من أخطر الأسباب التي أدت لتدمير محاولات التجميع اليائسة.
ليس لهذا السبب اسم، على الأقل عندي لا يوجد له اسم، ولم يسبق أن قرأت عنه في علوم السياسة والاجتماع أو علمت أنه سبق وأن حدث في مكان آخر لكي يتوصل العلماء إلى تسمية له، لذلك أنا مضطر للحديث عنه لعل أحداً قد اطلع عليه فيخبرنا، أو ربما يدفع ذلك أهل الاختصاص لدراسة هذه الظاهرة أو لأدرجوها فيما هو مناسب لها من الأمراض، لعل الأمم أو الأجيال الأخرى تستفيد من تجربتنا على هذا الصعيد وتتجنبها.
كان القائمون على أي محاولة لتشكيل جسم أو حزب أو إطار سياسي ثوري معارض يأخذون بعين الاعتبار الداخل والخارج.
بالنسبة لشباب المهجر وبلدان اللجوء، فإن أمراضهم تبدأ بالظهور لاحقاً، هذا إن كتب للمحاولة اجتياز هذه المرحلة، واجتيازها يتوقف هنا على ممثلي الداخل الذين يتكفلون غالباً بتدميرها عند الخطوة الأولى، وإذا كنت أريد أن أكون أميناً وصريحاً، فيجب أن أقول إن أكثر هذه المعاناة تكون مع ناشطي مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام.
في البداية تبدأ المطالبة من قبل غالبية هؤلاء بتمثيل متمايز لمناطق السيطرة، فمن يعيش تحت حكم هيئة تحرير الشام يجب أخذه بعين الاعتبار بشكل مستقل عمن يعيش في مناطق سيطرة الجيش الوطني، ومن يعيش في أي من هاتين المنطقتين يجب أن نأخذ بالاعتبار، حين الحديث عن التمثيل، ما إذا كان من سكان المنطقة أم من النازحين إليها. ثم ليس كل النازحين مثل بعضهم، وليست كل المدن تتعادل، ومخطأ إذا اعتقدت أن السوري مع السوري سواسية، حتى وإن كانوا جميعهم ثواراً ومعارضين !
وهكذا تتشعب وتتداخل وتتعقد الاعتبارات والحسابات عند محاولة وضع نسب للتمثيل، لكن كله بكوم وعندما تصل لإنجاز تمثيل بلدة أو مدينة صغيرة من مدن الشمال وإدلب فهذا كوم آخر.
هنا ستصدم بأنك ستجد في كل مدينة خمسين هيئة، وفي كل بلدة عشرة اتحادات، وفي كل قرية خمسة مجالس، وفي كل مخيم ثلاثة روابط ثورية، وكلها تتنازع وتتصارع وتتحارب، والويل لك إن اعتمدت إحداها وأهملت الأخرى، فعندها ستصدر بحقك البيانات التخوينية والاتهامات الرهيبة !
والويل والثبور لك إن اعتمدتها كلها، لأنك ستقضي اجتماعاتك في فض نزاعات هذه القوى وحل مشاكل أعضائها وقادتها التي لا يمكن حلها إطلاقاً.
أكثر ما يرهب في الأمر هو شعور هؤلاء القادة والأعضاء بتضخم مفرط بالذات، حتى ليكلمك أحدهم وكأنه فاتح الشرق والغرب حين يقدم لك نفسه، وما أكثر ما تشعر بأنك أمام صلاح الدين الايوبي أو قتيبة ابن مسلم الباهلي أو عبد القادر الجزائري أو عمر المختار على الأقل وأنت تستمع للسيرة الذاتية عندما يتلوها عليك أكثرهم:
أنا فلان الفلاني (يقولها برخامة وهدوء وتفخيم)، عضو تنسيقة كذا، ومؤسس رابطة مذا، وأمين سر الاتحاد الفلاني، والمتحدث باسم المجلس العلتاني..وهكذا تجد أنه يحمل عدة حقائب في نفس الوقت وبيد واحدة.
طبعا إذا كانت المرة الأولى بالنسبة لك فستبهر وتعتقد أنك حيال قامات ثورية وباسقات وطنية وأبراج نضال لم تأخذ حقها من التجربة والشهرة، وأن هؤلاء من كنت تبحث عنهم وكان يغيبهم من تصدروا الواجهة عن عمد وتقصد.
لكن ما أن تخوض أول غمار هذا البحر حتى تكتشف الحقائق المذهلة الصادمة القاتلة المؤسفة المضحكة المبكية المؤلمة المدمرة للروح والمعنويات والأحلام !
ستكتشف أول ما تكتشف أنه بالكاد يوجد اثنان من الحارة أو الضيعة أو البلدة أو المدينة الواحدة متفقين..
ثم ستكتشف أن الأجسام التي يمثلها معظم هؤلاء هي مجرد حبر على ورق، اسماء فقط، وأن آخر نشاط حقيقي قام به أغلبها كان (على زمن نعمان) ثم اختلفوا وتطاحنوا وانتهى كل شيء. إلا الخلاف والخصومة والعداء !!
سيذهلك أن هذه الخلافات والعداوات على لا شيء، بلا سبب جوهري، على توافه الأمور وسفاسفها، وسيصدمك أن بين أطرافها من هو مستعد للتصالح مع النظام لكنه لا يمكن أن يتصالح مع جيرانه وأبناء مدينته أو مخيمه !
أدى ذلك إلى ضجر الكثيرين، سواء من ناشطي الداخل أو الخارج، وبلغ يأسهم ذروته من هذه الوجوه والأجسام والعقول والأنفس، ما جعلهم يمتنعون عن الاستجابة لأي دعوة من هذا النوع، وطلقوا بالثلاثة محاولات إنجاز أي جسم سياسي، بعد أن فقدوا الثقة بهؤلاء أيضاً، وهم الذين فقدوا الثقة بالمعارضة وأكثر ناشطي الخارج من قبل بسبب أمراضهم كذلك، حتى بت تخجل أن تدعو أحدهم للمشاركة في أي محاولة من هذا النوع بسبب سلسلة الفشل الطويلة والمريرة.
أما أصحاب النفس الطويل والصبر الاستراتيجي فقد رفضوا الاستسلام وتمسكوا بكل اسم من هؤلاء وكل جسم، من مبدأ الحفاظ على كل الطاقات واستثمارها في الوقت المناسب، خاصة وأن الثورة هي بثوار الأرص، ولا قيمة لأي فعل بدون أهل الداخل المنظمين المأطرين في نقابات ومنظمات وأحزاب وروابط واتحادات إلخ.
لكن ما إن أتت لحظة الفعل ووقت العمل حتى ذاب أكثر من ٩٩ بالمئة من هؤلاء واختفوا !
فهؤلاء لطالما صدعوا آذاننا بالنقمة على هيئة تحرير الشام وسياساتها ومنهجها وإدارتها وتجاوزاتها وانتهاكاتها، حتى إذا ما سنحت الفرصة وخرج من خرج ضدها في شوارع إدلب وريفها، صمتت النقابات وغابت الاتحادات واختفت الروابط وتلاشت المجالس ولم يبق لأكثر من تسعين بالمئة من قادتها ووجوهها حضور أو صوت !
سيقول لي البعض: إذا كنت تريد الثورة على الهيئة أو غيره فتفضل إلى الداخل وثر..
سأجيب: أنا لا أطلب من أحد فعل أي شيء، وها أنذا لا ألوم أي مواطن أو ناشط طالما أنه احترم نفسه واحترمنا ولم يتبجح خلال الأشهر والسنوات الماضية بثوريته وتأثيره واستعداده لخوض غمار المخاطر من أجل خلاصه وخلاصنا وخلاص كل سوريا..
نعم أعرف كثيرين أصابهم اليأس، وأعرف كثيرين لم يعودوا مبالين، وأعرف من يقول كان الله بعون الشعب، وهؤلاء محل احترام وتقدير وتبجيل، لكن مشكلتنا مع هؤلاء الذين تجدهم في كل عرض وكل محفل وكل مولد وكل لقاء وكل مناسبة يستعرضون عضلاتهم الثورية ويزاودوا على أهل الخارج، ويشترطوا ويتشرطوا ويقرروا من يسمح له بالمشاركة ومن يحظر عليه الحضور، ثم يخربوا كل جهد ومسعى بصوتهم العالي وجعجعاتهم، فقط لأنهم ثوار الداخل، لكن عندما جد الجد تركوا الساحة لحزب التحرير وجماعة أنصار الدين وجند الاقصى، اللهم إلا من قلة قليلة من الناشطين الثوريين الذين وجدوا أنفسهم محاصرين مخذولين بكل أسف !!
اقرأ أيضاً: تلميذ الأسد “الجولاني” يحاول تسخيف مطالب الشارع كما فعل أستاذه في عام 2011