في ظلّ الثورة السورية، شهدت الساحة الفنية تحولًا كبيرًا، حيث خرج عدد من الفنانين عن صمتهم وقرروا أن يكونوا صوتًا للحق والحرية، وقدموا أعمالًا تعكس معاناة الشعب السوري وطموحاته في الحرية والكرامة.
هؤلاء الفنانون الأحرار، الذين لم يكتفوا بأن يكونوا شهودًا على ما يحدث، بل جعلوا من فنهم رسالة للتغيير، واجهوا تحديات وصعوبات لا تحصى، بدءًا من القمع والملاحقة وصولًا إلى المنفى والاغتراب.
ومن بين هؤلاء الفنانين يبرز اسم غطفان غنوم، المخرج والممثل السوري الذي لم يكن فنه مجرد عمل إبداعي، بل كان سلاحًا في وجه الظلم وقمع الحريات.
غطفان، الذي عاش الثورة بكل تفاصيلها، اختار أن يقف إلى جانب الشعب السوري الثائر، وأن يستخدم فنه لنقل معاناة السوريين وآمالهم في مستقبل أفضل، في هذا الحوار، نغوص في عمق تجربته الفنية، ونسلط الضوء على دوره كمبدع ومعارض، وكيف استطاع من خلال أعماله أن يخدم القضية السورية ويكون صوتًا للفنانين الأحرار.
الفنان السوري الحر غطفان غنوم أهلاً بك في هذا اللقاء الصحفي والذي سيكون ثرياً بالمعلومات حول حياتك الفنية وموقفك من الثورة السورية وعدد من الأسئلة الغفيرة التي تدور في أذهان الجمهور السوري ليس آخر هذه الأسئلة الدور الذي أخذته في مسلسل ابتسم أيها الجنرال وإثارة الجدل حول ذلك من خلال تقمصك لدور ماهر الأسد بشكل حقيقي وفعّال.
ولدت في مدينة حمص، المدينة التي تُعرف بتاريخها العريق وتنوعها الثقافي، فضلاً عن طابع أهلها المتسم بالدعابة وخفة الظل.
في هذه المدينة، تشكلت هويتي الفنية من خلال ما كنت أعيشه يوميًا من حكايات المدينة وشوارعها، وتلك اللحظات الخاصة التي كنت أقضيها على سطح منزلنا أتأمل السماء وأحلم. تلك الليالي، التي حملت في طياتها الهدوء والتأمل، منحتني فرصة للتواصل مع ذاتي ومع العالم حولي.
كان كل شيء، من تفاصيل الحياة البسيطة إلى الطبيعة، يشكل خيطًا في نسج وعيي الفني والسياسي.
حمص ليست فقط مدينة، بل هي مصدر إلهام بالنسبة لي، كنت أرى في كل ركن من أركانها قصة تنتظر أن تُحكى، وكل موقف اجتماعي هو صورة تعكس واقعًا أعمق، تعلمت من خلالها أن الفن هو انعكاس للحياة، وأنه يمكن أن يكون أداة قوية للتغيير، عندما انضممت إلى فرقة “إشبيلة”، أدركت أن المسرح هو نافذتي للتعبير عن القضايا الاجتماعية والسياسية، المسرح أتاح لي مساحة لتجربة الأفكار والإحساس بقوة التعبير عن الذات، وتقديم صوت لهؤلاء الذين لا صوت لهم.
شغفي بالإخراج والتصوير نشأ من رغبتي العميقة في توثيق اللحظات، تلك اللحظات التي تشكل حياتنا وتعبر عن أحلامنا وآلامنا. الكاميرا بالنسبة لي كانت دائمًا نافذة للعالم؛ وسيلة لرؤية ما وراء الظاهر، من خلالها، كنت أبحث عن المعنى فيما وراء المشاهد اليومية العادية.
في بداياتي، كان تأثير الشخصيات الفنية التي التقيت بها في فرقة “إشبيلة” قويًا جدًا، لقد زرعوا فيّ حب الإبداع ودفعوني للتفكير في أهمية الفن كأداة للتغيير الاجتماعي، كان ذلك اللقاء مع أفلام المخرجين العظماء مثل إنغمار بيرغمان أحد اللحظات الحاسمة التي شكلت اتجاهي الفني، بيرغمان، بفلسفته العميقة وسرده القوي، أظهر لي كيف يمكن للفن أن يكشف عن المشاعر الأكثر خفية ويعالج قضايا الوجود والهوية.
لقد جعلني أشعر بأنني أريد أن أكون ذلك الفنان الذي يستخدم عدسته للتحدث عن قضايا المجتمع والإنسان.
عندما اندلعت الثورة السورية عام 2011م، كان من المستحيل بالنسبة لي أن أقف متفرجًا، شعرت بواجب أخلاقي يدفعني للانضمام إلى صفوف المعارضة، ليس فقط لأنني كنت أشاهد الظلم، ولكن لأنني كنت أعيشه كجزء من شعبي.
كانت مشاهد القمع والدمار، التي كانت تظهر بشكل يومي، تحرك في داخلي إحساسًا بالمسؤولية تجاه توثيق هذه اللحظات والمشاركة في النضال.
دفعني الشغف بالدفاع عن حقوق الشعب السوري إلى استخدام كاميرتي كأداة للتغيير، أردت أن أنقل صوت الناس الذين لا يستطيعون إيصال صوتهم للعالم، مثلما قال الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، التاريخ يعلمنا أن مواجهة الظلم تتطلب جرأة.
لذا، قررت أن أكون جريئًا في الدفاع عن العدالة والحرية، مستعينًا بالفن كسلاح ناعم يمكنه التأثير على الوعي الجماعي.
الفن هو وسيلة فعالة للتعبير عن المشاعر والمواقف، وهو قادر على تجاوز الحدود واللغات لإيصال رسائل إنسانية عميقة.
في إطار الثورة السورية، وجدت أن الفن، وخاصة الإخراج والتصوير، هو أداتي المثلى لنقل قصص المعاناة والأمل، الصورة والفيلم يستطيعان أن يترجما مشاعر الألم والغضب بطريقة تجعل العالم يشعر بما يعيشه الشعب السوري.
أفلامي الوثائقية تركز على توثيق القصص الإنسانية، ليس فقط لتقديم الوقائع، ولكن لإثارة المشاعر والضمير العالمي.
أنا أؤمن بأن كل قصة شخصية تحمل بداخلها قدرة على تغيير وجهة نظر شخص ما أو فتح آفاق جديدة، الفن قد لا يكون قادرًا على تغيير الواقع بشكل فوري، ولكنه قادر على خلق وعي جديد وتحفيز الناس للتفكير في ما يمكنهم فعله لتغيير هذا الواقع.
تجسيد شخصية مثل ماهر الأسد في “ابتسم أيها الجنرال” كان تحديًا كبيرًا على المستوى الشخصي والفني.
كان من الضروري أن أضع نفسي في ذهن هذه الشخصية، محاولًا فهم دوافعها وردود أفعالها، لم يكن هدفي مجرد تقديم شخصية دكتاتور، بل أردت أن أوصل رسالة حول خطورة السلطة المطلقة وكيف يمكن أن تفسد النفوس وتدمر المجتمعات.
أحد الجوانب التي ركزت عليها في هذا العمل كان تسليط الضوء على آليات القمع والاستبداد، وكيف يمكن للديكتاتوريات أن تبني هياكل تبرر جرائمها، أردت أن يشعر المشاهد بحقيقة الخطر الذي يمثله الاستبداد ليس فقط على الأفراد، ولكن على الأمة بأكملها.
الفن في هذا السياق ليس مجرد تسلية، بل هو مرآة تعكس الواقع بعمق أكبر، ليشجع الجمهور على التفكير والعمل.
الثورة السورية كانت مليئة باللحظات الصعبة، لكن من بين أكثر اللحظات تأثيرًا كانت فقدان بعض من أصدقائي وزملائي المقربين، الذين سقطوا ضحايا للعنف الذي اجتاح البلاد.
رؤية مدينتي، حمص، مدمرة وأهلها مشردين كانت تجربة مدمِرة على المستوى الشخصي، إن مشاهد الخراب والموت، وعدم القدرة على حماية من أحببت، جعلتني أشعر بالعجز مرات عديدة، ولكنها في الوقت نفسه منحتني إحساسًا أقوى بمسؤولية الفن ودوره في توثيق هذه المعاناة.
هذه التجربة غيرت نظرتي للعالم والفن بشكل جذري، لقد أصبحت أفهم أن الفن ليس مجرد وسيلة للتعبير الشخصي، بل هو أداة للتغيير والمقاومة، كما قال محمود درويش: “نحن هنا، فكيف يمكن للمرء أن ينسى؟” من المستحيل أن أنسى تلك اللحظات، ومن هنا جاءت رغبتي في استخدام الكاميرا والقلم لرواية قصص أولئك الذين لم يعد لديهم القدرة على سردها، هذا الفهم العميق لما يمكن أن يفعله الفن أعطاني دافعًا للاستمرار في عملي، رغم كل الألم.
الوضع الحالي في سوريا معقد للغاية، حيث ما زالت البلاد تعاني من الفوضى والدمار الذي خلفته الحرب.
هناك العديد من الفصائل والقوى التي تحاول السيطرة على البلاد، بينما يعاني المدنيون من آثار العنف والتهجير، على الرغم من ذلك، لدي إيمان بأن الأمل لا يزال موجودًا، وأن التغيير ممكن إذا ما تضافرت جهود الشعب السوري والداعمين للحرية والعدالة.
رؤيتي المستقبلية لسوريا تتضمن الكثير من التحديات، ولكنني أؤمن بأن الجيل الجديد من السوريين يحمل في طياته بذور التغيير. هذا الجيل نشأ في ظل الثورة وتعلم من أخطاء الماضي، وهو يسعى لبناء مجتمع أكثر عدلاً وحرية، وكما قال الفيلسوف الأمريكي جون ديوي، “التعليم هو أساس التقدم الاجتماعي”، أرى أن التعليم والثقافة سيكونان الأساس لإعادة بناء سوريا الجديدة، دولة تقوم على قيم الديمقراطية والمساواة.
8. بصفتك فنانًا، كيف ترى دور المثقفين والفنانين في مقاومة الظلم والدكتاتورية، وهل يمكن للفن أن يكون سلاحًا فاعلًا في الثورات؟
دور المثقفين والفنانين في مقاومة الظلم والاستبداد لا يمكن تجاهله.
المثقف والفنان هما صوت الضمير الجمعي للمجتمع، وعليهما مسؤولية كشف الحقائق وتوجيه النقد، الفن قادر على إيصال رسائل قوية بطرق لا يستطيع السياسيون أو الناشطون ايصالها، عندما نعرض معاناة الناس من خلال فيلم أو لوحة، يمكننا أن نحرك مشاعر المشاهدين، وأن ندفعهم للتفكير والعمل من أجل التغيير.
جان بول سارتر قال إن “الالتزام هو واجب كل مثقف”، وهذا يعني أن الفن ليس منفصلًا عن الواقع الاجتماعي والسياسي، بل هو في صلبه.
يمكن للفن أن يكون سلاحًا فعّالًا في الثورات لأنه يصل إلى قلوب الناس وعقولهم، ويثير فيهم الرغبة في التغيير، القصص التي نحكيها من خلال الفن تجعل الواقع لا يمكن تجاهله، وتخلق نوعًا من الوعي الجماعي الذي قد يؤدي في النهاية إلى التحرك والعمل.
9. ما هي أكبر التحديات التي واجهتها كفنان معارض في ظل الحرب السورية، وكيف تعاملت مع المخاطر والتهديدات التي قد تتعرض لها؟
كفنان معارض في ظل الحرب السورية، كانت التحديات التي واجهتها جسيمة، كان هناك تهديد دائم على حياتي وحياة أسرتي بسبب مواقفي المعارضة، السلطات والنظام الحاكم لم يكن يتسامح مع أي شكل من أشكال المعارضة، سواء كانت سياسية أو فنية.
إضافة إلى ذلك، كانت هناك تحديات تتعلق بالموارد الفنية والإمكانيات، في كثير من الأحيان، كان من الصعب الحصول على معدات أو تمويل لأعمالي الفنية، بسبب الحصار والخطر المستمر.
لكنني تعاملت مع هذه المخاطر والتهديدات من خلال التحلي بالشجاعة والتعاون مع شبكات من الفنانين والنشطاء داخل وخارج سوريا، وكما قال توفيق الحكيم: “من يملك الشجاعة ليدافع عن فنه، يملك الشجاعة ليعيش.”
الفن هو طريق الحرية، وأنا كنت مستعدًا للدفاع عن حقي في التعبير بأي ثمن، تعاونت مع زملائي في مجال الفن والإعلام لخلق منصات بديلة توصل رسالتنا للعالم، واعتمدنا على دعم منظمات حقوق الإنسان والإعلام الدولي لنقل أصواتنا.
10. هل تود أن تشاركنا بعض الإنجازات أو المشاريع التي تعتز بها والتي ترتبط بالثورة؟
من بين المشاريع التي أعتز بها بشكل خاص هو الفيلم الوثائقي الذي أخرجته مؤخرًا حول الثورة السورية، هذا الفيلم كان توثيقًا لقصص حقيقية من الشوارع والمدن التي شهدت الثورة، حيث رويت من خلاله معاناة الناس، آمالهم، وخيباتهم.
الفيلم لم يكن فقط تسجيلًا للأحداث، بل كان شهادة على قوة الروح الإنسانية في مواجهة القمع والظلم.
اعتمدت في هذا الفيلم على مقابلات مع أشخاص عاشوا التجربة بشكل مباشر، سواء كانوا مدنيين، نشطاء، أو فنانين.
كما قال نجيب محفوظ: “الحياة ليست إلا مجموعة من الأحداث، وكل حدث يحمل في طياته قصة.” وهذه القصص كانت هي القلب النابض للفيلم، حيث سعت إلى إيصال الصوت الحقيقي للشعب السوري الذي قاوم على مدى سنوات من أجل الحرية والكرامة.
11. ما هي الرسالة التي ترغب في تركها للأجيال القادمة من خلال أعمالك الفنية ودورك في الثورة؟
رسالتي للأجيال القادمة هي أن النضال من أجل الحرية والكرامة هو واجب كل إنسان، الثورة ليست مجرد حدث سياسي، بل هي صرخة إنسانية تطالب بالعدالة والمساواة.
أتمنى أن تُلهم أعمالي الفنية الجيل القادم لمواصلة هذا النضال، وأن يستخدموا الفن كأداة للتعبير عن آرائهم وقيمهم.
كما قال المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي: “الحرية ليست شيئًا يُعطى، بل هي شيء يُسترد.” يجب أن يكون الفن وسيلة للمطالبة بالحرية، وليس مجرد انعكاس للواقع.
أريد أن أترك أثرًا يجعل الناس يدركون أن التغيير ممكن، وأنه يمكن للفن أن يلعب دورًا محوريًا في بناء مجتمع أكثر عدالة وإنسانية، الأجيال القادمة لديها فرصة لإعادة بناء سوريا على أسس جديدة، وأتمنى أن يروا في الفن وسيلة لبناء هذا المستقبل.
12. كيف ترى مستقبل الفن السوري في ظل التحديات الحالية؟ وما هي مشاريعك القادمة؟
رغم التحديات الكبيرة التي تواجه الفن السوري حاليًا، أعتقد أن هناك أملًا كبيرًا في المستقبل، الفن السوري قد أثبت على مر السنين قدرته على الصمود والتكيف مع الظروف، ومن خلال تلك القدرة على التجديد، يمكن أن يواصل الفنانون السوريون تقديم أعمال تلامس واقعهم وتعبر عن تطلعاتهم، الجيل الجديد من الفنانين يمتلك موهبة ورؤية، وقدرة على استخدام الأدوات الحديثة للتعبير عن أنفسهم.
أما بالنسبة لمشاريعي القادمة، فأنا أعمل حاليًا على مشروع يتناول تأثير الثورة على الهوية الثقافية السورية.
هذا المشروع سيكون فرصة لاستكشاف كيف تغيرت مفاهيم الانتماء، والهوية، والفن، بعد سنوات من الصراع، وكما قال الفنان والكاتب الأمريكي أوكتافيو باز: “الفن لا يعرف حدودًا، والفنان الحقيقي هو من يستطيع أن يمس قلوب الناس.” أتمنى أن يكون مشروعي القادم هو ذلك الجسر الذي يربط بين الماضي والمستقبل، وينقل قصصا لم تُروَ بعد.
اقرأ أيضاً: منبج تنتفض مجدداً بوجه ميليشيا قسد احتجاجاً على ممارساتها
اعترف نظام الأسد بسقوط عشرات القتلى والجرحى، جراء قصف إسرائيلي شرق حمص.
أفرجت الأجهزة الأمنية التابعة للنظام السوري عن شابين يافعين من أبناء محافظة السويداء جنوب سوريا،…
في السنوات الأخيرة، شهد الشمال السوري تحولاً كبيراً في المشهد السياسي والاقتصادي، حيث تأثرت الحياة…
كشف فريق منسقو استجابة سوريا عن التركيبة السكانية في شمال غربي سوريا.
أطلق نظام الأسد اليوم الإثنين 18 تشرين الثاني، سراح المصور والصحفي الأردني "عمير الغرايبة"، الذي…
ضربت عاصفة مطرية قوية مناطق ريف حلب الشمالي الليلة الماضية، وخلفت أضراراً في البنية التحتية…