بين شهيد القدس وشهيد طهران
لتصحيح أي مسار، تُنقد الأفكار و الأقوال، والنقد لا يُعتبر تجريحاً بصاحب الفكرة والقول أو شماتة منه وشتماً لمعتنقها، بل النقد تحليل لما ورد فيها وتقييم لأثرها سلباً وإيجاباً. فهل هناك بشر دون النقد في حياتهم ومماتهم؟ وهل قول: «اذكروا محاسن موتاكم» يمنح الشخصيات التي تتصدر الشأن العام سواء كان سياسياً أو دينياً أو مدنياً، وتركت أثراً وأقوالاً موروثة، حصانة من النقد ولا يجوز الاقتراب منهم؟ وحين يقول أحد ما رأي نقدي، يتوجب وصمه بالجهل أو الشماتة وأنه عنده رغبة في هدم البلاد وتشريد العباد، وربما يصل البعض لدرجة تكفيره! أم أن هناك الرأي الآخر، ولا سيما أن البشر باستثناء الأنبياء غير معصومين من الخطأ؟
فالشخصيات العامة على اختلاف مسمياتها ومسؤولياتها يحق للجميع إخضاعها للنقد والتقييم، سواء في حياتها أو بعد مماتها، نظراً لأنها اختارت عبر مناصبها أن تكون جزءاً من التاريخ، وبالتالي لا توجد حصانة لها تحميها من التقييم الموضوعي أو النقد الجاد وكذلك الحاد، لما قامت به من أعمال أو اتخذت من مواقف وخيارات وقرارات أثرت على الحياة العامة والسياسية سواء في بلادهم أو بلاد أخرى، لكن يجب أن يتم ذلك بدون شماتة أو تجريح شخصي. فلا حصانة للشخصية العامة، وينبغي ألا تكون لها حصانة من النقد الموضوعي طالما اختارت تمثيل شأن عام. ولأن الأفهام البشرية تختلف بين هذا وذاك، ولأن التأويل هو اللغة الغالبة لقراءة موقف أو رأي، فقد وجب التوضيح ووضع النقاط فوق وتحت الحروف، وذلك لسؤال مباشر: لماذا اختلف السوريون حول مقتل هنية في إيران؟ والجواب بسيط، أنه لا يوجد حب وكراهية في السياسة بقدر ما أن هناك نقد أو تأييد، والسوريون خرجوا بثورة لإيجاد مساحة للنقد ورفض الكراهية، وتوسيع المساحة بين العقل والعاطفة.
الخطاب الذي ساد بعد مقتل إسماعيل هنية في إيران كان عاطفياً مع الأسف ومرتبطاً بالحزبية والإيديولوجيا الواحدة، وهذا ما نجحت فيه إيران مع الأسف من خلال مقتل هنية في عقر دارها، إذ قامت ومن خلال بعض النخب العربية والسورية بتسويقه كمشهد من مشاهد تجارتها بالقضية الفلسطينية، ونجحت إلى حد ما بتسويق نفسها ضمن أطر الجماعات الإسلامية السياسية، وجعلت من اغتيال هنية هدية تقربها من جميع المفتونين بها، وتطالب بدمه على طريقة قميص عثمان، وأصبح لها موقع متقدم في الصفوف الأولى لمحور المقاومة وزاد من مرونة حركتها لخلط الأوراق على جميع الجبهات. فقد لاحظنا وقرأنا لكثيرين تماهوا مع ما تريده إيران وتسويق لكذبة نصرتها لفلسطين، وهم بالحقيقة من تخلى عن دعمهم في الحرب التي ما زالت تشنها على إسرائيل على أهل غزة.
في موت هنية، تنحى خطاب العقل وحضرت ذاكرة السمك ونسيت كل جرائم إيران بحق الشعوب العربية وتصدرت العاطفة والإيديولوجية الحزبية المشهد الجنائزي بكل تفاصيله، وأي لعبة مهما بدت نظيفة، تتأثر بالأصابع القذرة، فما بالك بقضية شعب يموت ويتاجر بقضيته على مدار سنين طوال.
في الماضي، أسهم الهجاء في رصد تجليات العلاقة بين طبقات المجتمع وطبقات الساسة والأدب والفكر، وليس من موقع أنه فن شعري بقدر ما هو حاجة مجتمعية فكرية سياسية لإثراء الحياة البشرية بالنقد إما لغرض التنبيه أو تعديل السلوك أو تسجيل الحضور. إذ استطاع الهجاء شعراً ونثراً أن يخلق حالة تواصل بين الهجّاء والمهجو والجمهور، لما في خطاب الهجاء وموضوعه من حيوية تحرك الاستماع لمحتواه والرد عليه، مما أضفى على الحديث مرونة وصخباً بالرفض والقبول والاستقباح والاستحسان، ومع هذا كله لم تنشأ عنه ضغائن أو أحقاد، والنقد الموجه لحماس وقادتها والذي يقابله البعض بالرفض المطلق وبنفسيات مأزومة لن ينتج إلا صورة ميتة في مخيال المدافعين عن حماس ويجدون تبريرات واهية لارتباطها بإيران.
ولكن من الواضح أن فصل العاطفة عن السياسة ما يزال حلماً بعيد المآل عند عدد معتبر من النخب السورية. علماً أن السياسة هي تدبير للشأن العام بشكل عقلي ومنظم، أما إذا دخلت العاطفة فهنا يفتح الباب على مصراعيه للديماغوجية والشعبوية واختلاط الحابل بالنابل، وثقافة “لا أتفق معه ولكن أخاف أن أغضبه”، وثقافة جبر الخواطر والمشاعر.
وإذا كانت كلمة الديماغوجية هي أحد الأساليب في سياسة الأحزاب البرجوازية، وهي موقف شخص أو جماعة يقوم على إطراء وتملق الطموحات والعواطف الشعبية بهدف الحصول على تأييد الرأي العام وإقناع الجماهير بتبني أفكارهم وخططهم والهدف هو الوصول إلى السلطة، مستندين في محاولتهم على شعارات تخاطب العاطفة، وهذا ما وجدناه على مدار سنوات الثورة السورية من خلال ديماغوغية دينية تشبه التقية الشيعية استخدمتها جماعات وهيئات وأشخاص لأجل تحقيق مآربهم وتحصيل مكاسب ومنافع، وهذه الديماغوغية الدينية تدغدغ العواطف من خلال خطاب أغلب شواهده دينية وتاريخية، وتقدم نفسها للتضحية في سبيل الله ودحر الكفار واستعادة المقدسات، ما يجعل المنتسب والمتلقي لذلك الخطاب يشعر أن أصحابه وحدهم يتبعون الصراط المستقيم، وغيرهم غير مستعدين للتضحية وغير مؤمنين بنهجهم، والخطاب دائماً معزز برصيد حزبي معرفي بما فيه المقدس لأجل الوصول إلى المدنس وهو الوصول للسلطة السياسية بالمقام الأول.
فخطاب الديماغوجية الدينية أصبح الملاذ الأفضل والوسيلة الأنجع لدى جماعات الإسلام السياسي لحشد التأييد، ظاهرها القضية والثورة، وباطنها تقية سياسية زيفاً وتضليلاً لنيل السلطة، على حساب حاجة البلاد والعباد، وأن أخطر ما في الكذب السياسي هو التوظيف النفعي للدين، وكذلك صناعة الأساطير سواء أكانت قومية أو دينية لتحقيق أهداف معينة تتمثل هذه الفائدة في إضفاء الشرعية السياسية على طابعها الإيديولوجي السلطوي، وكذلك التقية السياسية الإيرانية عملت على توظيف الدين لصالح تصدير ثورتها وخلقت كيانات دينية في الدول العربية تدين بالولاء لها من خلال شعار تحرير القدس ومعاداة الغرب لصالح تمددها في بلاد العرب.
وما زالت الجماعات التي تاجرت بالدين في القضية الفلسطينية وبالثورة السورية، تريد إصلاح السياسة بالدين، ولكن هل تعلم تلك الجماعات أن حماقاتها أفسدت الدين بالسياسة، لأنها تاجرت بالمقدس الثابت مقابل المدنس المتبدل فكانت النتيجة، أنها أفسدت كليهما فساداً كبيراً، فالبلاد وقضاياها ومؤسساتها لا تُبنى بالإيمان بل بالعلم، إنما وظيفة الإيمان التهذيب الأخلاقي والمعنوي، يقي من الفساد والانغماس المفرط في الماديات والغرق التام في الشهوات، والتطرف الأعمى في الغرائز والانزلاق الحاد في النزوات والعواطف.
الديماغوغية الدينية أنتجت مواقف مركبة عديدة، نشتم إيران ثم نصدر بيان تعزية بشخص من أدوات جماعتها سواء قُتل بالضاحية الجنوبية أو إيران؟ نحمل الشعب السوري جميلة تضامنهم مع الثورة في بدايتها تحقيقاً لمصالحهم ثم عادوا لحضن نظام الأسد، ونطالبه بنسيان المجازر الجماعية التي ارتكبتها الميليشيات بحقها لأن قائدها شهيد القدس وتلك الميليشيات داعمة لمحور المقاومة؟ نتضامن مع القضية الفلسطينية لأنها قضية عادلة، ولا يجوز طرح سؤال عما حققه طوفان الأقصى. يجب أن نرى مشاريع المقاومة الدينية والسياسية بعين الرضا، ولا نرى بعين السخط من يدعمها، في حين كان سبباً بتدمير أكثر من بلد عربي وشرد أهله وقتلهم على الهوية؟
بين الخوذة والعمامة اختنقت القضية والثورة، إذ لا فرق بين الاثنين في حقيقة الأمر، إذا اختلفت مع بعض أصحاب العمائم، فالمشكلة ليست كونك ضدهم، بل ضد الله، أما إذا اختلفت مع بعض أصحاب الخوذات، فالمشكلة ليست كونك ضدهم، بل ضد الوطن. وتبعاً لمنطقهم السائد، فإن الجماعة الأولى تتعامل معك ككافر، والمعسكر الثاني كخائن، وفي كلتا الحالتين يُحكم على القضية والثورة بالموت. جماعة التكفير يستقوون بالمقدس الديني، ومعسكر التخوين يستقوي بالمقدس الوطني. وانتفى الجانب المدني بإدارة الشأن العام، حتى الذين كانوا يرتدون البدلات المدنية ويسوقون مشاريع خارجية بعيدة عن واقع المجتمع كانت نفوسهم مسكونة بالخوذات أو العمائم، وأحياناً الإثنين معاً. لقد أصبح الشعبين الفلسطيني والسوري كمفهوم سياسي هما الغائب الأساسي عن ما يجري في بلادهم اليوم، بكل مستوياتها، وكل الشعبين استطاع أن يصبح القضية يوماً ثم أكلته ضباع القضية.
اقرأ أيضاً: لقاء المبعوث الروسي مع المعارضة السورية في تركيا