الفن في المهجر: جسر الهوية السورية بين الماضي والمستقبل
الفن في المهجر: جسر الهوية الوطنية السورية بين الماضي والمستقبل
تشكّل الثقافة والفنون ركيزة أساسية في تعزيز الهوية الوطنية، خاصةً في أوقات الشتات والنزوح. بالنسبة للسوريين الذين وجدوا أنفسهم بعيدين عن وطنهم بسبب سنوات الحرب، أصبحت الثقافة والفنون ليست مجرد وسيلة للتعبير، بل أداة حيوية للحفاظ على الذاكرة الجماعية والهوية الوطنية. في بلدان المهجر، يواجه السوريون تحديات جديدة مرتبطة بالاندماج في مجتمعات تختلف عن جذورهم الثقافية، مما يفرض عليهم ضرورة إيجاد طرق لربط الماضي بالحاضر والحفاظ على هويتهم. من هنا يبرز دور الفنون كجسر يمتد بين الوطن البعيد وحياة المنفى، مساهماً في تعزيز الانتماء والهوية الوطنية.
في هذا السياق، تبرز أهمية الفنون كمصدر لإحياء الذاكرة، حيث يستخدم الفنانون والمثقفون السوريون أدواتهم المختلفة لتجسيد معاناة شعبهم والاحتفاء بتراثهم. في المسرح السوري الذي انتقل إلى مسارح العالم، نجد قصصًا تحكي مآسي الحرب وأحلام العودة، وتترجم هذه المعاناة إلى أعمال فنية تشكل لوحة مفعمة بالأمل والانتماء. كذلك في السينما، تُبرز العديد من الأفلام تجربة الشتات السوري، مسلطة الضوء على قصص الأفراد الذين وجدوا أنفسهم في عوالم جديدة، يحاولون من خلالها الحفاظ على هويتهم السورية سواء عبر الموسيقى، أو من خلال الرواية، أو حتى عبر الفنون التشكيلية. هذه الجهود لا تعبر فقط عن مشاعر الفنانين أنفسهم، بل هي مرآة لصوت الجالية السورية ككل، تسعى للحفاظ على صلة الروح بالوطن الأم.
الفن كوسيلة لتجسيد الذاكرة الجماعية
إذا نظرنا إلى تجارب الفنانين السوريين في المهجر، نلاحظ أن كل عمل فني يعكس قصة جماعية ترتبط بذاكرة وطنية متجذرة في التاريخ. على سبيل المثال، الموسيقيون الذين حملوا آلاتهم إلى أوروبا وتركيا وبلدان أخرى، لم يعزفوا لمجرد العزف لذواتهم، بل كانوا يعزفون ألحاناً تنقل المستمعين إلى الأزقة السورية وإلى الأحياء التي غابت عنها الحياة، ولكن لم تفقد من الذاكرة.
الفنان المسرحي قد يستعرض على خشبة المسرح مشهداً من حياة اللجوء، ولكنه يقدم تجربة تفوق حدود النص. إنها تجربة تتجاوز المكان لتؤسس صلة أعمق مع الجمهور، تربط الحاضر بذكريات الوطن التي لا تفنى.
اللغة أيضاً تعتبر من بين الأدوات المهمة التي تعزز الهوية الوطنية. فمن خلال الأدب والشعر، يمكن للسوريين في المهجر الحفاظ على لغتهم الأم. إحياء اللغة ليس مجرد حفاظ على الألفاظ والجمل، بل هو استحضار لتاريخ طويل يحمل في طياته ثقافة وتراثًا. الشعراء والكتّاب السوريون في بلاد المهجر يظلون أوفياء للغة العربية، ليس كوسيلة للتواصل فقط، بل كوعاء يحتوي على الهوية الثقافية. استمرار الكتابة والإنتاج الأدبي في المهجر يضمن بقاء الجذور الثقافية حيّة في نفوس الأجيال القادمة، ويمنحهم فرصة للتمسك بلغتهم التي تشكل جزءاً من هويتهم.
تحديات الاندماج والحفاظ على الهوية الثقافية
الفنون السورية في المهجر تواجه تحديات كبيرة. إذ يجد الفنان السوري نفسه أمام واقع جديد ومعقد؛ من جهة يحاول التعبير عن هويته وحملها معه إلى الخارج، ومن جهة أخرى يتعامل مع ثقافات جديدة قد تؤثر على إرثه الفني.
في ظل هذا الواقع، سألنا الفنانة عزة البحرة عن قدرة الفنون الدرامية على مواجهة التحديات السياسية والاجتماعية التي يعيشها السوريون في المهجر، وما إذا كانت ترى أن الفن يمكن أن يكون أداة للتغيير والتمسك بالهوية الوطنية رغم تشتت السوريين حول العالم.
جاء رد البحرة ليعكس تعقيد هذا السؤال، حيث قالت: “التغيير موضوع إشكالي جداً وشائك. فهو بحاجة أولاً إلى مؤسسات الدولة التي من واجبها أن تدعم الفكر والثقافة والفنون لرفع السوية الفكرية والثقافية للشعب بشكل عام. من خلال رفع السوية يمكن أن تتم عملية التغيير بشكل تراكمي وتدريجي. أما عملية التغيير السياسي، فهي لن تتم للأسف إلا بقرار سياسي دولي، ولن يكون بإمكان الشعوب الواقعة تحت نير أنظمة عسكرية ديكتاتورية فاسدة إحداثه”.
تضيف البحرة: “فيما يتعلق بقدرة الفن على مواجهة التحديات السياسية والاجتماعية، فهي مهمة صعبة جداً وأحياناً مستحيلة، لأن الدراما من الفنون التي تحتاج لرأس مال مرتفع. كتابة النصوص، الممثلين، مواقع التصوير وغيرها من العناصر، كلها تتطلب دعماً كبيراً. في ظل الظروف الحالية للسوريين في المهجر، من الصعب إنتاج أعمال كبيرة ومؤثرة، وهذا ينطبق أيضاً على المسرح الذي يحتاج إلى صالة عرض وموافقات من جهات مسؤولة، بالإضافة إلى تجميع الممثلين المتفرقين في الشتات. قد تكون هناك جهود فردية من الشباب بين الحين والآخر، لكنها لا تمتلك القدرة على الحفاظ على الهوية الوطنية أو نقل معاناة المهجرين بشكل كامل”.
سألناها أيضًا عن دور المسرح في توثيق الذاكرة السورية خلال فترة النزوح، ومدى قدرة المسرح على تعزيز الهوية الوطنية ونقل معاناة المهجرين السوريين. في هذا السياق، أشارت البحرة إلى أن المسرح بحاجة إلى دعم مادي وديمومة لضخ الأفكار والرؤى الفكرية والمجتمعية. وقالت: “الفن بكل أصنافه بحاجة إلى مستثمر مغامر يلقي برأس ماله دون التفكير في العوائد المادية. لكن للأسف، في ظل الظروف الحالية، لا يوجد على الساحة الفنية إلا شركة ‘ميتافورا’ التي أنتجت عدة أعمال درامية، منها مسلسل ‘ابتسم أيها الجنرال’. ورغم أهمية هذا العمل، لم تمتلكه أي قناة تلفزيونية لبثه بسبب حساسية موضوعه”.
إلى جانب ذلك، طرحنا سؤالًا على الفنانة التشكيلية سميرة بيراوي حول كيفية تفاعلها مع التحديات الثقافية والفنية في المهجر، وكيف تستطيع التعبير عن التفاعل بين الهوية السورية وجماليات الثقافات الجديدة من خلال فنها. ردت بيراوي بأنها تحاول إبراز جماليات بلدها من خلال أعمالها الفنية، قائلة: “أبرز جماليات بلدي من خلال الريشة في المهجر حيث أقيم، وأشارك في ندوات تُعقد حول الفن السوري، تتناول نشأته ومراحل تطوره. من خلال أعمالي الفنية، أُظهر ثقافة بلدي وتاريخ المجتمعات الجديدة التي نزحنا إليها، حيث أختار القضايا الرئيسة التي تهم السوريين في الداخل والمهجر، وأجسدها بألواني كصلة وصل بين الماضي والحاضر”.
ورغم أهمية الفن في توثيق الهوية والذاكرة، يبقى السؤال: هل تكفي الفنون للحفاظ على الهوية الوطنية؟ وهل يمكن للفنان السوري، الذي يعمل في إطار مجتمعات جديدة، أن يحافظ على هويته دون أن تذوب في الثقافات المحيطة؟ هنا يأتي دور الجاليات السورية في المهجر، فهي العنصر الأساسي في دعم الفنانين وتقديم أعمالهم إلى الساحة العالمية. نجاح الفنانين يعتمد على مدى ارتباطهم بجالياتهم ومدى دعم هذه الجاليات لهم، فالفن لا يعيش في عزلة، بل يحتاج إلى جمهور يحتضنه.
الفنون كجسر بين الماضي والحاضر
لا يمكن الحديث عن تعزيز الهوية الوطنية السورية في المهجر دون التطرق إلى أهمية التراث الثقافي. التراث السوري الغني الذي يشمل الموسيقى، الفولكلور، الحرف اليدوية، والعمارة يُعد جزءاً أساسياً من الهوية السورية.
من خلال الفنون، يستطيع السوريون في المهجر إعادة إحياء هذا التراث وتمريره إلى الأجيال القادمة. توظيف التراث في الأعمال الفنية المعاصرة يُعد خطوة نحو بناء جسور بين الماضي والحاضر، حيث يمكن للفن أن يصبح وسيلة لربط التجارب الفردية في المنفى بالتجربة الجماعية للمجتمع السوري ككل.
إذا نظرنا إلى الفنانين السوريين الذين يعيدون إحياء التراث المعماري أو الحرف اليدوية في أعمالهم الفنية، نجد أن هذه الأعمال ليست مجرد استرجاع لتقاليد قديمة، بل هي محاولات لإعادة تفسير هذه التقاليد في ضوء التحديات المعاصرة.
الفنون، إذن، يمكن أن تشكل جسراً بين الماضي والحاضر، وسبيلاً لتعزيز الهوية الوطنية في ظل اللجوء. ولكن الأمر يتطلب دعماً مادياً ومؤسساتياً لضمان استمرارية هذا الجسر وتعزيز تأثيره على الأجيال القادمة.
في نهاية المطاف، يبقى الفن السوري في المهجر جزءاً لا يتجزأ من الهوية الوطنية. فهو يعيد إحياء الذاكرة ويربط الجالية السورية بتاريخها. من خلال الفنون، يستطيع السوريون في المهجر أن يجدوا طريقاً جديداً للتعبير عن أنفسهم وتعزيز انتمائهم لوطنهم، مهما كانت المسافات.
اقرأ أيضاً: الجعفري يستبعد لقاء أردوغان والأسد دون تحقيق مطالب الأخير