الكثير منا قرأ قصة تلخص مفهوم كيّ الوعي والتي مفادها، أن رجلاً شكا للوالي ضيق الدار التي يسكن فيها مع زوجته وأطفاله، ووعده الوالي أن يوفر له بيتاً واسعاً خلال ثلاثة أيام حيث طلب منه في اليوم الأول أن يستضيف بداره الضيقة بقرة، وفي اليوم الثاني أن يتحمل وجود خروفين بجوار البقرة في نفس الغرفة التي يعيش فيها مع أبنائه، وفي اليوم الثالث طلب منه تدبر أمره مع مجموعة من الدجاجات في ذات المكان، وفي اليوم الرابع ذهب صاحب الدار إلى الوالي يطلب التخفيف فخرجت الدجاجات وفي اليوم الخامس خرجت الخراف وفي اليوم السادس خرجت البقرة، ليكتشف الرجل في بحر أسبوع واحد أنه كان يعيش في مكان فسيح لولا الدخلاء الذين استضافهم لثلاثة أيام، حيث كوى الوالي وعيه، وبالتالي باتت داره الضيقة وسيعة، وأصبح قابل لتدبر أمره مع كل التغيرات.
ويعد مصطلح كيّ الوعي وسيلة تستخدمها الدول والجماعات والأفراد، وهذه الوسيلة تتغير أدواتها بحسب كلّ حقبة زمنية، فبعد استعمال القوة والبطش بالطرف الأخر، يمكن أيضاً اللجوء إلى كيّ الوعي كجزء من الحرب الناعمة، عن طريق الحرب النفسية من خلال الإعلام والفن كطريقة من طرائق غسيل الأدمغة التي من خلالها يتم تغيير الأفكار، من منظور الجهة التي تشنّ الحرب على هذا العقل وبالتالي نكون أمام تشكيل قناعات جديدة منحرفة كلياً عن الاتجاه الصحيح أو الهدف الأسمى، وبالتالي إلحاق الهزيمة بالطرف الاخر وإعادة الحياة إلى الوراء، حيث يصبح الطرف المضاد يتمنى العودة إلى ما كان عليه قبل بداية الحرب أو المواجهة،
وأسلوب كيّ الوعي يعد أحد أخطر نماذج الحرب الناعمة والتي يتم من خلالها القدرة على الحصول على المبتغى من خلال الجذب، بدلا من القسوة والضرب، فالقوة الناعمة سجال عقلي وقيمي يهدف إلى التأثير في الرأي العام من أجل تحقيق الهدف المراد، وأدوات تلك القوة المؤثرات والرموز البصرية والإعلامية.
وبعد 13 عاماً على انطلاق الثورة السورية على نظام الأسد المستبد، يزداد كيِّ الوعي من خلال تشويه وعي الثورة وتحويلها إلى أزمة سياسية وإعلامية وفنية، بدل المطالب والحقوق المشروعة التي خرج يطالب بها الشعب الثائر، عبر استخدام إشاعات وشعارات وبروباغندا إعلامية، والتي هي بمثابة حرب ناعمة تستخدم بطريقة محترفة، وبالتالي، فإن هناك من يتقبل هذه الأفكار ويسير وفق مبتغاها، لكن في الوقت نفسه، هناك من يرفضها كليا، ومع ذلك يبقى الخوف قائما، واليوم لا يمكننا إخفاء حقيقة الأفكار المشوهة التي تدسها القوة الناعمة عبر أدواتها لتجتاح بقوة عقول الكثير من السوريين.
ومن أدوات القوة الناعمة التي يستخدمها أسلوب كيّ الوعي الإعلام والدراما لما لهم من دور هام في تشكيل الوعي الجماهيري فالصورة التي تقدم من خلال الدراما خاصة في التلفزيون والإعلام المرئي تنطبع في العقول، ومع التكرار والإعادة تعيد تشكيل الوعي أكثر من قيامها بإعادة صياغة الواقع.
لذا حرص نظام الأسد على امتلاكها وتوظيفها لصالحه، حيث لم تعد الدراما للترفيه والإمتاع بل أصبحت إحدى أدواته السياسية في تضليل الرأي العام وقبوله لتبريراته في شن حربه على الشعب الثائر على سلطته واعتقال المعارضين وتصفية وتهجير الثوار، دون أن يشعر مؤيديه بأي وخز ضميري، فتضليل إعلامه وتشخيص كركوزاته الفنية في الدراما أحدثت تغييرا في معايير الأخلاق والقيم والعدل.
ومن القدم كان توظيف الانظمة المستبدة للدراما أحد أشكال التأثير في الواقع، وقد كانت العلاقة بين الفن والسياسة متشابكة على مر التاريخ نظرا لدور الفن في تشكيل هوية المجتمع الثقافية، وإيصال رسائل ذات أهداف سياسية لإظهار الواقع بوجه أخر، وتشويه الأخر المعارض للسلطة، ومن قرأ كتاب من يدفع للزمار للبريطانية فرانسيس سوندرز سيقرأ الدور الذي تقوم به أجهزة الاستخبارات لتدعيم الدراما الفنية وتوظيفها كإحدى الأدوات الفاعلة في الحرب الباردة، وإحداث شروخ نفسية وثقافية في الطرف المستهدف.
عندما انطلقت الثورة ضد نظام الأسد عام 2011، قام باستقطاب الفنانين ومنتجي الدراما، حيث كان يدرك حجم تأثير تلك الفنون، كونها تدخل إلى كل بيت بلا استئذان، وجعل من الفنانين أدوات تخدير وخدعة لتشويه الثورة ومطالب الشعب الثائر وتبييض صورة جيشه وتلميعها وأن ما تشهده سوريا مؤامرة كونية تقوم
بها أدوات “إرهابية”، وقام نظامه بدعم الشركات الفنية التي تنتج المسلسلات الدرامية، والتي تعود ملكيتها لرجال أعمال موالين لسلطته ويقاسمونه أرباح إنتاجها، وانتجت خلال سنوات الثورة عشرات المسلسلات التي أظهرت أن سلطة الأسد بخير، وعملت على قلب الحقائق وتصوير الشعب الثائر المهجر كضحايا “للعصابات الإرهابية” الممولة من الخارج والتي تستهدف تخريب سوريا، وحول الأسد منتجي ومخرجي وفناني تلك الأعمال لدمى مسرح عرائس صامتة عنةقتله عشرات الآلاف من ابناء شعبهم، و تهجير الملايين بعد تدمير مدنهم وقراهم.
الآن الواقع يقول أن نظام الأسد ومن خلال توظيفه للفن والدراما يريد كيّ الوعي العام، في ظل غياب وعي إعلامي معارض يكسر عظم استبداده، وعرض ما تنتج شركاته الفنية تحت شعار المشاركة لا المغالبة واستضافة الفنانين المؤيدين لسلطته بالبرامج سيزيد من مساحة ربحه وتحويل ذلك الإعلام لناقل لا فاعل في المعركة الثقافية لكسر عظم المستبد، حيث لم تعد الدراما السورية وسيلة ترفيه وحسب، وإنما باتت واحدة من أهم أدوات القوة الناعمة التي يستخدمها الأسد، لتعبر عن أفكاره وتوجهات سلطته ونظامه وحشد الرأي العام الداخلي والخارجي لتبني وجهة نظره في مواجهة الشعب الثائر وتسليط الضوء على بطولاته في مواجهته في مختلف المجالات والمحافل.
أن كيّ الوعي الذي يمارسه نظام الأسد مقدمة لكل التنازلات، وأن التصدي له مرهون برفع الوعي الذي يحول دون كيّه مرة أخرى واستبدال الكيّ بنشر الوعي الحقيقي وتعريف العالم بأفعال النظام الوحشية بعيدا عن ضجيج الوعي المزيف بالدراما، ورفع الوعي الفردي والجمعي والالتصاق بنبض الشارع ومطالب الشعب ونقل معاناته وتطلعاتها نحو الحرية المنشودة ومنع كيّه بفن كاذب ودراما هابطة تبرئ القاتل وتجعل الضحية مادة الفرجة.
اقرأ أيضاً: كسر عضم والدراما السورية وتلفزيون سوريا…