مقالات الرأي

مناهج التعليم في منبج بين بيداغوجيا وإيديولوجيا قسد والأسد

خلال زيارتي لمدينة منبج التي تحررت قبل أيام من قبضة تنظيم قسد، عثرت في مراكزهم على نسخ من الكتب المدرسية التي كان ذلك التنظيم، الذي اندحر من المدينة، يسعى إلى فرضها على طلاب المدارس في منبج. تجد في محتوى تلك المناهج مشاريع تغيير قسرية تريد سلطة الأمر الواقع فرضها على الطلبة.

وكما يؤكد باولو فيريري في كتابه بيداغوجيا المقهورين: “لا يوجد تعليم محايد، فهو إما للقهر أو للتحرير”. البيداغوجيا لغةً عبارة عن كلمة يونانية الأصل، تتكون من “peda” وتعني الطفل، و”agogé” وتعني القيادة والتوجيه. في مجال التربية والتعليم، تُستخدم “بيداغوجيا” للإشارة إلى التوجيه والتأطير للمتعلم، وهي علم يهتم بأساليب وأصول التعليم، والأهداف والوسائل المستخدمة لتحقيقها، والعلاقة بين المعلم والطالب، وكيفية نقل المعرفة وبناء المفاهيم.

أما الإيديولوجيا، كما تُعرفها القواميس، فهي مجموعة من المعتقدات والمبادئ التابعة لنظام سياسي أو منظمة ما، تضم عناصر نظرية وتطبيقية تهدف إلى تغيير الواقع أو فهمه.

منذ سيطرة ميليشيات قسد على مدينة منبج، تعمل تلك القوات عبر هيئاتها التعليمية على ترسيخ إيديولوجيتها وأهدافها الانفصالية من خلال استهداف الهوية العربية لسكان المدينة وتدمير القيم الدينية والعادات الأصيلة.

تضمنت المناهج التي سعت قسد إلى فرضها أفكارًا حول كيانهم المزعوم وحدوده، بالإضافة إلى فلسفة زعيمهم عبد الله أوجلان. كانت هذه المناهج تحاول زرع أفكار جديدة تتعارض مع قيم الدين الإسلامي وثقافة أهل البلد. تُعرِّف هيئة التعليم التابعة لقسد نفسها بأنها “مسؤولة عن النظام التعليمي المرتكز على مفهوم الأمة الديمقراطية، استنادًا إلى فلسفة قائد الشعب عبد الله أوجلان”.

مع بداية العام الدراسي الجديد، أضرب طلاب مدينة منبج عن الذهاب إلى المدارس احتجاجًا على فرض تلك المناهج. تبعت ذلك مظاهرات واحتجاجات عمّت المدينة وريفها. كان المحتوى الإيديولوجي للمناهج يمثل وسيلة لإعادة إنتاج علاقات السيطرة والقمع. تُركز تلك المناهج على تشكيل نمط شخصية مطيعة ومنفصلة عن الواقع، ما يتيح لسلطة قسد التحكم في الأجيال الجديدة.

تحاول قسد عبر المناهج المفروضة تحقيق الضبط الاجتماعي بالقوة، بدلًا من تكريس الديمقراطية التي تدّعيها. تستهدف المناهج ترسيخ الطاعة العمياء وتدجين الطلبة وتحويلهم إلى مستهلكين لفكر غريب عن ثقافتهم، ما يؤدي إلى حالة من الاغتراب بين ما يتلقاه الطلاب في المدرسة وما يجدونه في منازلهم.

يُدرك أهل منبج أن هذه المناهج تهدف إلى محو هويتهم الثقافية والدينية لصالح أهداف سياسية تخدم قسد. وقد أدى هذا إلى حالة من التناقض والاغتراب بين الطلاب وأسرهم، مما يجعلهم يعانون من تضارب القيم والمفاهيم.

في مدينة منبج، كانت مؤسسات التعليم تتقاسمها قسد ونظام الأسد. مناهج الأسد تضمنت أفكار الحزب والقائد وصور بشار الأسد، وركزت على تعزيز الموالاة والطاعة العمياء. أما قسد، ففرضت مناهجها الانفصالية التي تغيب عنها الهوية الوطنية، وتحتوي على أفكار مشوهة تهدف إلى السيطرة الفكرية والعسكرية.

كان التعليم أداة لتكريس هيمنة الإيديولوجيا لدى الطرفين، ما أدى إلى توطين الجهل ونشر الفكر المنحرف. المناهج المفروضة لم تأخذ في الاعتبار ثقافة أهل منبج أو عاداتهم وتقاليدهم، بل سعت إلى تدميرها واستبدالها بأفكار دخيلة تخدم أهداف السلطة القائمة.

التعليم هو نظام المناعة في جسد المجتمع، ولكن في منبج، تحوّل هذا النظام إلى أداة للقمع والتشويه. ما بين بعثنة التعليم وقسدته، بقي أهالي منبج يواجهون إيديولوجيات دخيلة تعمق اغترابهم عن هويتهم وثقافتهم، وتحوّل التعليم من وسيلة للتحرير إلى أداة للقهر.

على السلطات المسؤولة عن منبج مستقبلاً أن تدرك أن التعليم يجب أن يكون وسيلة لتحرير الأجيال القادمة من القمع والجهل، وأن يعكس قيم وثقافة المجتمع، لا أن يكون أداة لتكريس الهيمنة والسيطرة.

شاهد أيضاً “قصر الشعب” يحتضن لقاءً بين الشرع ووزير الخارجية التركي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى